الأخلاق والاقتصاد:
وللأخلاق الإسلامية مجالها وعملها في شئون المال
والاقتصاد، سواء في ميدان الإنتاج أم التداول أم التوزيع أم الاستهلاك.
فليس للاقتصاد أن ينطلق ـ كما يشاء ـ بلا حدود ولا قيود، دون ارتباط بقيم،
ولا تقيد بمثل عليا، كما هي دعوة بعض الاقتصاديين للفصل بين الاقتصاد والأخلاق.
ليس للمسلم أن ينتج ما يشاء ولو كان ضارا بالناس ماديا أو معنويا، وإن كان
يستطيع أن يحصل هو من وراء هذا الإنتاج أعظم الأرباح، وأكبر المنافع.
إن
زراعة التبغ "الدخان" أو "الحشيش" ونحوه من المواد المخدرة أو الضارة قد يكون فيها
مكسب مادي كبير. ولكن الإسلام ينهاه أن يكون كسبه ونفعه من وراء خسارة غيره وضرره.
وإن تصنيع الأعناب ليصبح عصيرها خمرا يجلب أرباحا وفيرة ويحقق منافع
اقتصادية للمنتجين من أصحاب الكروم، ولكن الإسلام أهدر هذه المنافع في مقابل المضار
الضخمة التي تترتب على الخمر في العقول والأبدان والأخلاق، وتتمثل فسادا في الأفراد
والأسر والجماعات. يقول القرآن: (يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).
وليس للمسلم ـ في ميدان التبادل ـ
أن يتخذ بيع الخمر أو الخنزير أو الميتة أو الأصنام، تجارة. أو يبيع شيئا لمن يعلم
أنه يستعمله في شر أو فساد أو إضرار بالآخرين. كالذي يبيع عصير العنب ـ أو العنب
نفسه ـ ممن يعلم أنه يتخذه خمرا، أو يبيع السلاح ممن يعلم أنه يقتل به بريئا، أو
يستخدمه في ظلم وعدوان. وفي الحديث: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه"، وفيه: "من
حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي ـ أي له ـ أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرا
ـ أي ولو كان مسلما ـ فقد تقحم النار على بصيرة".
وليس للمسلم أن يحتكر
الطعام ونحوه مما يحتاج إليه الناس رغبة في أن يبيعه بأضعاف ثمنه. وفي الحديث
الصحيح: "لا يحتكر إلا خاطئ" أي آثم. كما قال تعالى: (إن فرعون وهامان وجنودهما
كانوا خاطئين).
وليس للتاجر المسلم أن يخفي مساوئ سلعته وعيوبها، ويبرز
محاسنها مضخمة مكبرة، على طريقة الدعاية الإعلامية المعاصرة، ليبذل المشترون
المخدوعون فيها من الثمن أكثر مما تستحق. فهذا غش يبرأ منه الإسلام، ورسول الإسلام:
"من غش فليس منا".
وفى مجال التوزيع والتملك، لا يجوز للمسلم أن يتملك ثروة
من طريق خبيث، ولا يحل له أن يأخذ ما ليس له بحق لا بالعدوان ولا بالحيلة.
كما لا يحل للمسلم الملك بطريق خبيث، لا يحل له تنمية ملكه بطريق خبيث
كذلك.
لهذا حرم الله الربا والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، والظلم بكل
صوره، والضرر والضرار بكل ألوانه.
وفي مجال الاستهلاك، لم يدع الإسلام
للإنسان حبله على غاربه، ينفق كيف يشاء، ولو آذى نفسه أو أسرته أو أمته. بل قيده
بالاعتدال والتوسط فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد
ملوما محسورا)، (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين)، وحمل على الترف
والمترفين، وحرم كل ما هو من مظاهر الترف مثل أواني الذهب والفضة، فحرمها على
الرجال والنساء جميعا، كما حرم على الرجال لبس الذهب والحرير.
وبهذا تميز
الاقتصاد الإسلامي بهذه الخصيصة العظيمة من خصائصه، أنه "اقتصاد أخلاقي"، وشهد له
بذلك الباحثون الأجانب.
يقول الكاتب الفرنسي "جاك أوستروي" في كتابه عن
"الإسلام والتنمية الاقتصادية".
"الإسلام هو نظام الحياة التطبيقية
والأخلاق المثالية الرفيعة معا، وهاتان الوجهتان مترابطتان لا تنفصلان أبدا. ومن
هنا يمكن القول: إن المسلمين لا يقبلون اقتصادا (علمانيا). والاقتصاد الذي يستمد
قوته من وحي القرآن يصبح بالضرورة، اقتصادا أخلاقيا.
وهذه الأخلاق تقدر أن
تعطي معنى جديدا لمفهوم "القيمة" وتملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر من نتيجة
(آلية التصنيع).
"لقد استنكر (بركس) النتائج المؤذية لنمو حضارة (الجنس) في
الغرب، ويقلق الاقتصاد اليوم من سطوة "قيم الرغبات" على القيم الحقيقية.
"والآن بدأ الغرب يعي النتائج المؤذية من جراء مفاوضات عالمية لعالم غير
مستقر... فلقد وجد الرجل نفسه مفصولا عن عمله، فالآلة أصبحت السيد، وحياة التطرف في
وسائل الراحة كالسيارات وغيرها. والاهتمام بالتوافه، ولم يهتم الغرب أبدا عداء
(الآلة) للإنسان، وهى تشكل أفقا لقسم هام من الإنسانية".
"ولم يغب عن
الإسلام الواعي هذا الدرس في متناقضات الغرب، ولكي يقف في مواجهة الغرب ـ محققا في
الوقت نفسه وجهته الاقتصادية ـ عمد الإسلام لإدخال قيمه الأخلاقية في الاقتصاد…
وهكذا يخضع العناصر المادية في الاقتصاد لمتطلبات العدل.
"وهذا
اللقاء بين الأخلاق والاقتصاد الذي يلج عليه (ج. يرث) لم يوجد صدفة في الإسلام الذي
لا يعرف الانقسام بين الماديات والروحيات.
"وإذا كان اقتران البروتستانية
مع الوثبة الصناعية مزورا، وإذا كانت الصلة بينهما موضع نقاش، فهذا غير كائن في
الإسلام، لأن غالبية تشريعه الإلهي تمنع كل تنمية اقتصادية لا تقوم عليها.
"وعلى النقل التقليدي السريع لتجربة الغرب (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله
لله) يجب ألا يخفي استحالة هذا التمييز في الإسلام، وفصل الدين عن الدولة الذي أدخل
الفاعلية المادية في الغرب، لا معنى له في الإسلام، حيث لا تولد الفعالية في المجال
الفكري وخارجه، بل باستلهام من قوة الإسلام ومن الوحي المنزل".
وإذا
استقرأنا الواقع التطبيقي، وجدنا أثر هذا الاقتران بين الاقتصاد والأخلاق، واضحا
وعميقا في تاريخ المسلمين، وخاصة يوم كان الإسلام هو المؤثر الأول في حياتهم،
والموجه الأول لنشاطهم وسلوكهم.